الشهيدان العظيمان الأنبا ابشاي والأنبا بطرس
نشأ القديسان الأنبا بشاي والأنبا بطرس وولدا في بلدة بوها (= مكان ومقابل مدينة صدفا الآن)، من أعمال مدينة فاو ومن إقليمها، وكانا ينتميان لأسرة غنية مسيحية عرفت بعمق الإيمان. وكان أبو القديس بشاي وأمه تقيين جداً فأبوه (ثيؤبسطس) كان أرخناً عظيماً وغنياً لم يستطع أحد حصر أمواله وكرومه وبيوته ودوابه ومقتنياته. وكان يصنع صدقات كثيرة. كما كانت قرابينه وبكوره وعطاياه مستمرة ودائمة كل حين في بيت الله. و أمه (خاريس) كانت سيدة عفيفة محبة لله جداً. وكانت أبنة لكاهن حكيم فاضل حافظ للكتاب المقدس إسمه الأب يوحنا كان نائباً لأسقف مدينة فاو وكل تخومها. وقد تنبأ القس يوحنا بأن ابنتيه خاريس (وزوجها ثيؤبسطس) ومريم (وزوجها سدراك) سترزقان بنسل طاهر مبارك ( هما إبشاي وبطرس) يسفك دمهما علي اسم السيد المسيح.
ولقد مضت سبعة عشر سنة دون أن يرزق ثيؤبسطس وخاريس بنسل فكانا متألمين حزينين. ورفعا صلوات كثيرة لأجل ذلك. وبينما هما يصليان معاً ذات يوم، ظهر لهما ملاك نوراني في الليل بشرهما بولادة إبشاي الذي سيكون إناءً مختاراً وله إسم شائع وسيتحمل عذابات كثيرة لأجل اسم المسيح وينال إكليل الشهادة وإكليل الحياة الدائمة ويعيد مع صفوف الشهداء في أورشليم السمائية.
وقد ولد القديس الأنبا إبشاي في بلدة بوها في الأول من شهر برمودة، وفي يوم ولادته فرحوا فرحاً عظيماً وصنعوا وليمة كبيرة دعوا فيها كل أهل بلدتهم من أغنياء وفقراء. وإستمروا في فرحهم سبعة أيام يقدمون عطاياهم وصدقاتهم للمساكين والفقراء.
ولما أتي بالطفل أبواه لعماده في الكنيسة، كان في البيعة في تلك الأيام قسيس طاعن في السن كامل في الأعمال الحسنة بتول منذ صغره طاهر نقي. وبسبب شيخوخته وطول عمره كلت عيناه ووهن جسمه. وفي ذلك الأوان مرض الكاهن مرض الموت الذي يمضي به إلي الرب، فلما أتي والدا القديس الأنبا بشاي إلي البيعة، قدماه إلي القس الشيخ المبارك ميخائيل وسألاه أن يصلي علي الطفل ويباركه. فأخذ الأب الكاهن يد الطفل ووضعها علي عينيه ووجهه وصدره، فشفي من مرضه للحال وعاودته صحته وإسترد بصره. وعندئذ قام علي قدميه وشكر الله وباشر تعميد الطفل بنفسه بكل فرح ونشاط. وبعدها عاد فبارك الطفل وأسرته وأقربائه القادمين معه وطوبهم بإنتسابهم إلي هذا الطفل ، وتنبأ عنه قائلاً أنه وصديقه بطرس سوف ينالا اكليل الشهادة وتبني لهما وبإسميهما بيعة عظيمة في قريتهما بوها في مكان منزل الأسرة حيث يبقي جسداهما ويصنع الرب بشفاعتهما عجائب وقوات كثيرة ومستمرة. ولما انتهي من بركته قبل الطفل وسلمه لوالديه ثم فاضت روحه للحال. وكان أن أبوي الأنبا بشاي كفنا جسده الطاهر ودفناه بكل تكريم في موضع مشهور في البيعة ورجعا إلي منزلهما بسلام.
أما بطرس، فقد ولدته أمه مريم قبل ولادة بشاي بقليل، وكان معروفاً عن أبيه سدراك أنه كان محباً لله ولا يتواني عن تقديم صدقات كثيرة. وقد حدث بعد مرور ثلاث سنوات من مولد بطرس أن تنحيت أمه مريم فأخذته خاريس أم بشاي وإحتضنته وسلمته لمربيات تقيات لأنها لم تكن قد رزقت بعد بولدها الأنبا بشاي. وقد اجتهدت في تربية بطرس وقيل أنه نشأ من صغره يعرف الرب كصموئيل النبي.
ولما ولدت خاريس طفلها المختار بشاي فرحت بالطفلين وضمتهما معا كإبنيها، وإعتنت بهما من كل وجه. وتربي الطفلان معا كشقيقين لا يفارق أحدهما الآخر. وكانا ينميان معاً في معرفة الله وفي كل نعمة وحكمة.
ولما بلغ بشاي من العمر سبع سنوات، أرسله أبوه ومعه بطرس إلي مدينة أخميم حيث تتلمذا علي كاهن قديس شيخ هو القس يوسف. وقد استفاد بشاي وبطرس كثيراً من هذا المعلم الفاضل الذي كان كثيراً ما يزورهما في بيتهما في أخميم ليعلمهما. وكان كلاهما كالإبن المطيع الخاضع. وقد علمهما القس يوسف قراءة الكتب المقدسة وتفسير معانيها. كما علمهما أيضاً كتب البيعة والحكمة والأدب وكان الصبيان يلازمانه كل يوم في حضور الكنيسة باكراً وعشية.
ولما رأي معلمهما كثرة محبتهما لله وحرارتهما في العبادة والسجود والسهر والصوم كل يوم إلي العشية، أوقفهما أمام المذبح المقدس رغم صغر سنهما ورسمهما الأسقف شماسين علي الكنيسة ويحكي الأنبا ميسياس أسقف فاو وكاتب سيرتهما أنه للوقت لما إبتدأ الأسقف سيامتهما وتكريسهما والصلاة عليهما، فاضت عليهما موهبة الروح القدس، وإمتلأ الإثنان من نعمة الله شهادة من السماء علي أنهما يستحقان هذه الرتبة المقدسة. وبعدها زادا نموا في كل معرفة روحية وكنيسية، وقد قيل عن بشاي وبطرس أنهما كانا يقضيان يومهما في الصلاة من الصباح الباكر حتي المساء. كما كانا يصومان انقطاعا ولا يتناولا طعامهما إلا في العشية.
وقد إعتاد بشاي وإبن خالته بطرس أن يصحبا صلواتهما اليومية بميطانيات عديدة في النهار والليل، وقيل أنهما كانا يصليان كل يوم طالبين مراحم الرب مائة وخمسين مرة في النهار ومائة وخمسين مرة في الليل.
جهاد القديسين في شبابهما:
لما بلغ الأنبا بشاي سن السابعة والعشرين، كان هو وصديقه الأنبابطرس قد نميا جداً في الفضيلة. وقد إستمر نموهما مداومين على خدمة المذبح المقدس مواظبين علي حضور الكنيسة كل يوم بغير فتور أو تكاسل بل بنشاط وهمة. وقد ألفَ بشاي وبطرس الاشتراك معاً في العبادة المقدسة وممارسة النسك والصوم.
وقد رُوي عنهما أنه كان لهما في البيت قلاية خاصة للعبادة والاختلاء، وكانا ينامان معاً فيها، وقيل أنهما لم يشتهيا قط مجمع الصبيان، ولم تمل أعينهما بشهوة نحو وجه إمراة أو حسنها. ولم ينظرهما أحد يمشيان في السوق، ولم تخرج من فم أي منهما كلمة بطالة، ولم يشتهيا لذة مأكل أو مشرب بل كانا يمتنعان عن الطعام المطهي والشهي، كما كان رحيمين يتصدقان بما عندهما علي الفقراء والمحتاجين. ولم تنقطع قرابينهما وذبائحهما أو تبطل يوماً واحداً من بيت الله.
ولما رأت أسرتهما فرحهما بالرب ونسكهما وعدم إهتمامهما بهذا العالم الزائل، لم يفاتحانهما في موضوع الزواج عالمين أنهما نذرا نفسيهما للبتولية المقدسة.
وفي إحدي المرات، بينما كان القديسان يصليان معاً صلاة نصف الليل كعادتهما، أشرق عليهما رئيس الملائكة جبرائيل وألقي عليهما السلام، وتكلم معهما وأنبأهما بما سوف يلقيانه وغيرهما من عذاب وإضطهاد وإستشهاد علي إسم السيد المسيح وما سيلي ذلك من تملك الملك قسطنطين البار الذي يأمر بهدم برابي الأوثان وفتح الكنائس وإعلان المسيحية ديانة رسمية، ولم يتركهما الملاك إلا بعد أن شددهما وبارك عليهما. ولما صار النهار أخبرا ثيؤبسطس وخاريس والدي الأنبا بشاي بما رأياه. وتعجب الجميع متسائلين ما عساه أن يكون الاضطهاد الذي أنبأ به الملاك. وبكر القديسان كعادتهما إلي الكنيسة وصليا ثم رجعا عائدين إلي موضعهما في البيت.
ولما بلغ القديس الأنبا بشاي سن الثلاثين مات أبواه في يوم واحد معاً. وحزن عليهما جداً حزن الفراق المشوب بتعزية كلمة الرب الغنية، غير أن بشاي زاد في نسكه وتقشفه بعد نياحتهما ولم يرقد علي فراش ناعم. وكان وابن خالته كثيري السهر طول الليل مجاهدين في الصلاة والعبادة. ثم توحد الاثنان في قلاية بدير قريب من بلدتهما.
مشوار المتاعب:
كتب بولس إلي أهل فيلبي قائلاً (لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله) في 1 :29، وهكذا شق الأنبا بشاي طريقه في مشوار تعب مستهيناً بالآلام والأتعاب غير مخوف بشئ من المقاومين، ففي تلك الأيام تحققت نبوءة للقس يوحنا (جد الشهيدين لأمهما) مفادها أن شاباً طائشاً ردئ السيرة طويل القامة ساحراً أسمه (أغربيطاتيم) من مجندي جيش الإمبراطور نوماريوس مضي مع الجنود إلي مدينة المملكة حيث أقام أياما قلائل في إسطبل الخيل لأنه كان في مهنته الأصلية راعياً للماعز في تخوم مدينة أخميم في بلدة يقال لها (إبصاي) فنظرت أبنة الملك هذا الشاب الفارع وأعجبت به وأحبته وتزوجته زواجا نجساً ولأن الملك أبا الفتاة كان علي أيامها في حرب صعبة غير متكافئة مع الفرس وخاف وقتها وهرب وإنقطعت أخباره، فقد خلعت الأميرة علي عشيقها أغربيطاتيم حلة الملك وألبستها له وأجلسته علي كرسي أبيها معلنة علي الملأ أنه الامبرالطور وأن مملكة الروم ألت إليه وصار إسمه (دقلديانوس) ، وتولي الملك في عام 284م وعندئذ دخله الشيطان وأظلمت بصيرته وترك عنه عبادة الله بجهل وأسرف في النجاسة والزنا وعبادة الأوثان. وأغلق الكنائس وبني البرابي، وعمل سبعين صنماً (=نصفها من الذكور ونصفها من الإناث)، وسماها آلهة وأمر الناس أن يسجدوا لها وكلف واليه (إريانوس) الذي تولي إدارة الإقليم من إنصنا (=ملوي) إلي أسوان أن ينفذ أمره أو ُيعاقب بالقتل كل من خالفه ، وقد استشهد في ذلك جمع كبير من أخميم وإبصاي وفاو ودندرة وأرمنت وإسنا وقفط وقوص.
ولما أعلن (أخيلوس) العامل علي مصر ( من قبل الأمبراطور) إستقلاله بمصر ونادي بنفسه ملكاً عليها، اضطر دقلديانوس أن يحضر بنفسه إلي مصر ويقتص من أخيلوس. ولظنه أن المسيحيين في مصر ناصروا أخيلوس هدم كنائسهم وقتل منهم الكثيرين في مذبحة رهيبة بلغت قرابة المليون شهيد . وروي بعض الآباء أن دقلديانوس أقسم بأنه لن يكف عن قتل المسيحيين إلا إذا بلغت الدماء ركبة حصانه وبالفعل لما تعثر حصانه وسقطت به الفرس علي الأرض تلوثت ركبتاها بالدم فأوفي بقسمه وأنهي الاضطهاد وإمتنع عن قتل مزيد من المسيحيين.
وفي السنة الثالثة من ولاية إريانوس الذي تولي إدارة الأقاليم من ملوي إلي أسوان حضر إريانوس الوالي إلي مدينة فاو لكي يراقب المسيحيين ويضطهدهم. ويومئذ تقدم للوالي بعض الأشرار ووشوا بالقديسين بشاي وبطرس بأنهما رفضا عبادة الأوثان داعيين لعبادة السيد المسيح. فأستدعاهما الوالي آمراً بالقبض عليهما ولما حضرا أمامه واجهاه بشجاعة عجيبة وأعلنا إيمانهما وتمسكهما بالسيد المسيح وإستعدادهما لتحمل العذاب والموت لأجله. وإذ لم يكن الوالي مستعداً لمحاكمتهما للتو بسبب مشغولياته، فقد أودعهما السجن لحين إنتهاء مهمة كان سيقوم بها. وقيل أن الوالي كان مضطراً للسفر للصعيد جنوباً في رحلة إلي مدينة قفط حيث علم بسقوط بربا (= معبد للوثن) وإنهيار الهيكل حتي قتل جميع الكهنة مجتمعين وتحول المكان إلي جب (= بئر أو حفرة) غائص عميق كريه إمتلأ بماء نتن شديد السخونة ولونه كلون الزفت.
أما السجن المظلم الذي وضع فيه القديسان فقد تعطر بوجودهما فيه. وهكذا تحول مكان الحبس إلي مكان عبادة حيث كان الشهيدان، مثل بولس وسيلا، يصليان ويسبحان الله والمسجونون يسمعونهما (راجع أع 16 : 25)، وكان الشكر يرتفع منهما إلي الرب يسوع الذي أهلهما لشركة آلامه. وفي السجن قصدهما الكثيرون من أهل بلدهما كل يوم. كما تردد عليهما مرضي كثيرون طالبين صلواتهما. وحدثت منهما كثير من معجزات الشفاء.
وفي السجن، نالتهما تعييرات وإهانات وعذابات كثيرة وكان الملاك جبرائيل ينزل إليهما في كل مرة ويلمسهما ويشفي جراحاتهما. وقد ظهر جبرائيل مرة للقديسين وهما في السجن معا بعد حبسهما بثلاثة أشهر. ووقتها عزاهما وأنبأ القديس بشاي بأن الملك سيأمر بقطع رأسه بعد أن يمضي إلي مدينة الإسكندرية ويحتمل عذابا عظيما ويصنع قوات وعجائب كثيرة، ثم يأتون بجسده لبلدته (بوها) ويبني منزله بيعة عظيمة علي إسمه وإسم صديقه بطرس ويوضع جسداهما فيها. أما بطرس فقد أنبأه الملاك بأن الوالي بمجرد عودته من مهمته سيأخذ رأسه ويصلبه علي الكوم الذي في شرقي البلدة وسيمضي بعض الأتقياء خفية ويأخذون جسده ليدفنوه في البيت لحين مجئ جسد بشاي وبناء الكنيسة بإسميهما معاً.
شهادة الأنبا بطرس:
بعد خمسة أشهر، عاد الوالي إلي فاو مرة أخرى بعد إنتهاء رحلته إلي قفط. وهناك والقديسان في محبسهما، إستدعاهما الوالي إليه فوجد منهما إصرارا علي التمسك بإيمانهما وإذ عجز عن إقناعهما بعبادة الأصنام وثنيهما عن إيمانهما بالمسيح، أمر بحملهما علي الهنبازين وشدهما جيداً وعصرهما. وبينما هما كذلك، رفعا قلبيهما إلي الله مسبحين بشكر، وترنما بالمزمور القائل، ” لتتقدمنا مراحمك سريعاً لأننا قد تذللنا جداً، أعنا يا إله خلاصنا من أجل اسمك” (مز 79:9, 8 ) وفيما هما يرتلان نزل إليهما الملاك جبرائيل وكسر الهنبازين ولمس جسديهما وشفاهما.
ولما رأي الوالي ثباتهما علي الإيمان وتجمع الشعب حولهما، فرق بين الصديقين ووضع كلا منهما في محرس مستقل وقرر أن يحاكم كلا منهما علي إنفراد،علي أن يبدأ أولا بمحاكمة الأنبا بطرس. وقد فشل الوالي في التفريق بينهما إذ حدث أن ملاك الرب إختطف الأنبا بشاي من حبسه وأتي به سائحاً إلي الأنبا بطرس حيث شدد كل منهما الآخر وتعزيا وصليا معاً صلاتهما المشتركة الأخيرة قبل أن تكمل شهادتهما وتصعد روحاهما الطاهرتان إلي مواضع النياح ولما رأي الوالي شدة تمسك بطرس بإيمانه طلب أن يخرج إلي خارج البلدة ثم أمر بقطع رأسه بالسيف فنال إكليل الشهادة وقد علقوه علي خشبة علي كوم عال في البلدة.
وكانت شهادته في اليوم السادس والعشرين من شهر طوبة وسنه حوالي التاسعة والثلاثون أو الأربعون عاماً علي الأكثر. وقد سعي الأنبا بشاي ودفع ذهبا حتي أمكنه الحصول علي جسد صديقه الأنبا بطرس وأخذه بعض المؤمنين سراً حيث تم اخفاؤه في خباءة بدهليز منزل الأسرة في بلدة بوها .
شهادة الأنبا بشاي:
أما الأنبا بشاي فقد بقي في حبسه بعض الوقت بعد إستشهاد صديقه بطرس. وفي السجن واجه بكل شجاعة تهديدات الوالي وإهاناته وقد عاني من صنوف التعذيب الكثير وتحملها جميعا بشكر وصبر، وظهر له الملاك جبرائيل مرة أخري في سجنه وعزاه وأنبأه بموعد إستشهاده في الخامس من شهر بؤونة وبأن جسده الطاهر سوف يصل إلي يد تيموثاؤس نائب الملك في الإسكندرية، وهذا يسلمه إلي أغاثو رئيس البنائين الذي من بلده فيكفنه ويأخذه مع رفقته إلي بلدتهم بوها حيث يدفنوه مع جسد صديقه الأنبا بطرس ويبقي الجسد في منزل الأسرة لحين ينتهي الاضطهاد ويعاد بناء الكنائس فتبني في مكان دار القديس كنيسة علي اسمه وقد كان هذا هو الذي حدث.
وفي تلك الأيام وبينما كان اريانوس يتهيأ لمحاكمة بشاي وصلته رسالة تستدعيه أن يحضر إلي مصر شمالاً ومعه بعض المهندسين المهرة لبناء بربا عظيمة علي الشاطئ لأحد آلهتهم فغادر إريانوس فاو آخذا معه المهندسين وعلي رأسهم (أغاثو) الذي من بلدة الأنبا بشاي أما بشاي فأمر الوالي أن يوثقوه بقيود من حديد ويأخذوه معهم في مركب أخري إلي مقصدهم بغير أكل أو شرب. ورغم مرور عشرة أيام بدون أكل أو شرب لكنه بقي صحيحاً وكان يقول لمن حوله (لقد أطعمنى الله من خيراته و أعالنى في جوعي وعطشي و هوذا هو يعولني منذ صغري وحتي الآن فمن ياتري له إله صالح محب لي ولكل البشر مثل إلهي!! )
وقد وصل بشاي إلي الإسكندرية حيث إستجوبه واليها (كلوسيانوس) فسأله ما اسمك ؟ وما هو عملك . اما هو فأجابه بكل شجاعة قائلا ( انا تاجر جئت أبيع دمى لاشترى ملكوت السموات هذا الذى حرمت انت نفسك من خيراته) عندئذ عذبه عذابات قاسية وأمر بربطه وأخرج عروق يديه ورجليه وضربه بالسياط حتي تناثر لحمه وإضافة لهذا أمر بأن يسكبوا زيتا مغليا علي صدره وفي فمه وأذنيه وانفه وجعلوا مصابيح نار تتقد تحت جنبيه وأحضروا مراود حديد محماة بالنار جعلوها في عينيه حتي برزتا من وجهه. ورغم كل هذا كان القديس محتملاً وصابرا ونزل إليه الملاك جبرائيل وعزاه ولمسه وشفي جراحاته.
ولما فشلت جهود كلوسيانوس، أعدوه للسفر إلي أنطاكية ومعه أربعة من المعترفين ومعهم كتاب إلي الملك دقلديانوس مكتوب فيه (هؤلاء رفضوا إطاعة الأوامر الملكية. وقد مللنا من تعذيبهم. ولأجل هذا نرسلهم إليك) ورغم أنه كان يعرف مصيره لكنه ظل أمينا مع إلهه ثابتا في إيمانه، وأكثر من هذا أحسن إلي من أساء إليه. فقد حدث أن جاءه تيموثاؤس نائب الملك طالباً منه أن يبرئ إبنته التي كان عليها روح نجس. ومن كثرة الحزن عليها بكت أمها عليها الليل والنهار حتي فقدت بصرها من حسرتها عليها فكان أن جاءهم الأنبا بشاي في نصف الليل وصلي علي ماء ورش الفتاة وأمها فخرج الروح النجس من الفتاة واستعادت الأم نظرها.
وفي أنطاكية صلي لإبن الأمير مكسميانوس الذي سكنه شيطان منذ ثماني عشرة سنة وشفاه فآمن الأمير وكل أسرته وعبيده وتعمدوا باسم الثالوث الأقدس. ورمي مكسيميانوس قلادة الإمارة في وجه الملك معترفا بالإيمان المسيحي مما إضطر الملك أن يأمر بقطع رأسه ورؤوس من معه وقد بلغ عددهم ستة عشر فرداً.
وفي أنطاكية أيضاً توعده الإمبراطور دقلديانوس ثم عذبه مع رفقائه المعترفين الأربعة. وقد حفروا للأنبا بشاي حفرة طرحوه فيها ورفقائه ، وأشعلوا فيهم ناراً بكبريت مع زيت وارجون علي نحو ما حدث للفتية الثلاثة في بابل ورغم إرتفاع اللهيب عالياً فقد نزل إليهم الملاك جبرائيل وشوهد مع الشهداء الخمسة وكأنهم يتمشون وسط النار في نزهة وأطفأ النار عنهم. وكان هذا سببا في أيمان أحد الجنود الذين أعلن إيمانه فوراً فقطعوا رأسه ورؤوس الأربعة المرافقين للأنبا بشاي. ونال الجميع إكليل الشهادة.
أما بشاي فقد ربطوا حجراً كبيراً في عنقه، وربطوا حبلاً برجليه في أحد الأعمدة ونكسوا رأس العمود حتي صار نصف الجسد في الماء والنصف الآخر معلقاً إلي فوق. وكان ذلك من الساعة الثالثة حتي السادسة من النهار. فجاء ملاك الرب وأمسك برأس القديس وعدلها علي جسده وحل الحجر من علي عنقه وأجلسه عليه وسط اليم!! وبعد قليل جاء الملك فذهل لما رأي ذلك وعندئذ أمر بقطع رأس القديس . وقبل أن يسلم القديس رأسه للسياف قام وصلي ورشم وجهه ثلاث مرات بعلامة الصليب المقدس. وكانت شهادته في مدينة إنطاكية في الساعة السادسة من نهار يوم الجمعة الموافق الخامس من شهر بؤونة وقد بلغ عمره وقتئذ حوالي ست وثلاثين سنة وقد تركوا جسد القديس ورأسه في قارب صغير بغير قائد وبتدبير الله وعنايته أبحر القارب حتي وصل إلي الإسكندرية. وبمجرد وصوله للإسكندرية أظهر القديس ذاته متجلياً في رؤيا لبعض المؤمنين الذين كان أحدهم (أغاثو) المهندس ورئيس البنائين الذي من بلدة القديس والذي كان قد جاء إلي الإسكندرية ليسأل تيموثاؤس نائب الملك عن أخبار الأنبا بشاي فلما ذهبوا إلي البحر وعرفوا جسد الأنبا بشاي، أخذه أغاثو وكفنه بأكفان من حرير ووضع عليه أطيابا ثمينة وجعل جسده في صندوق من الخشب ورافقه في المركب حتي أوصله إلي بلدته بوها وهناك خرج أهل القرية وحملوا الجسد الطاهر بإحترام وإكرام ودفنوه بجوار جسد حبيبه وصديقه وشريكه في النسك الأنبا بطرس.
ولما تولي الملك البار (قسطنطين) الحكم وأطلق الحرية للجميع ونادي بالمسيحية ديانة إعترفت بها الدولة.
ظهر الأنبا بشاى والأنبا بطرس على هيئة رجلين مضيئين لرجل أرخن محباً لله اسمه مرقس وإمرأته إيرينى من بلدة بوها وكانا أبراراً سالكين فى وصايا الله وحقوقه وقالوا له يا مرقس الأرخن لماذا أنت كسلان فى أمرنا وأنت جارنا فلا تتركنا قم وهيئ لنا موضع نسكن فيه بجانبك لأنك أنت قريبنا.
فقال لهما مرقس ما هى أسمائكما؟
فأجابوه أنا إبشاى وهذا بطرس وأجسادنا نحن الإثنين مخفيين فى بيتنا بجانب بيتك وقد نسيتنا ونحن أهلك وأقاربك والآن إهتم وإبنى لنا بيتنا كنيسة وإذا وصلت إذا موضع السلم فإهدمه وأحفر فى الأرض فتجد مالاً قد خلفوه آبائنا فخذه وأنفقه على بناء الكنيسة، فقام مرقس باكراً وهو متعجب لأجل الرؤيا التى رآها وذهب إلى الأسقف وأعلمه بها فباركه وقام أغاثو رئيس البنايين وأصدقاؤه ببناء الكنيسة ثم أرسلوا إلى الأسقف القديس الأنبا برسطاطوس أسقف أخميم وكان عنده الأنبا تاوضروس أسقف أسفحت والأنبا ميساس أسقف قاو الذين حضروا لتكريس الكنيسة يوم السبت في السادس والعشرين من شهر كيهك ووضعوا فيها جسدي القديسين بكرامة عظيمة.
ومازالت رفات القديسين محفوظة في الكنيسة التي تحمل إسمهما للآن بمدينة صدفا بركة شفاعتهما تكون معنا آمين.
أسماء وألقاب القديسين: إبشاي هو النطق الأصلي والاسم الأصلي لقديس الكنيسة الأول. وهي كلمة قبطية بمعني (عيد) وبطرس هو إسم قديس الكنيسة الثاني. وهو كلمة يونانية معناها (صخرة) فالقديس الشهيد الأنبا بشاي لقب بألقاب مختلفة عرف بها، ومن هذه الألقاب: (1) حبيب الله (2) الإناء المختار من الله (3) القربان المختار (4) وعاء الطيب النقي (5) القديس الشجاع (6) حامل الإكليل المقدس (7) الزرع الطاهر الأصل ( المصباح المنير (9) الكوكب العظيم الشهيد القديس الأنبا بطرس أيضاً كانت له ألقابه المميزة التي منها (1) القديس الشجاع (2) صفى الله (3) المصباح المنير (4) وعاء الطيب النقي (5)القربان العظيم (6) صاحب الإكليل المقدس غير المضمحل
نشأ القديسان الأنبا بشاي والأنبا بطرس وولدا في بلدة بوها (= مكان ومقابل مدينة صدفا الآن)، من أعمال مدينة فاو ومن إقليمها، وكانا ينتميان لأسرة غنية مسيحية عرفت بعمق الإيمان. وكان أبو القديس بشاي وأمه تقيين جداً فأبوه (ثيؤبسطس) كان أرخناً عظيماً وغنياً لم يستطع أحد حصر أمواله وكرومه وبيوته ودوابه ومقتنياته. وكان يصنع صدقات كثيرة. كما كانت قرابينه وبكوره وعطاياه مستمرة ودائمة كل حين في بيت الله. و أمه (خاريس) كانت سيدة عفيفة محبة لله جداً. وكانت أبنة لكاهن حكيم فاضل حافظ للكتاب المقدس إسمه الأب يوحنا كان نائباً لأسقف مدينة فاو وكل تخومها. وقد تنبأ القس يوحنا بأن ابنتيه خاريس (وزوجها ثيؤبسطس) ومريم (وزوجها سدراك) سترزقان بنسل طاهر مبارك ( هما إبشاي وبطرس) يسفك دمهما علي اسم السيد المسيح.
ولقد مضت سبعة عشر سنة دون أن يرزق ثيؤبسطس وخاريس بنسل فكانا متألمين حزينين. ورفعا صلوات كثيرة لأجل ذلك. وبينما هما يصليان معاً ذات يوم، ظهر لهما ملاك نوراني في الليل بشرهما بولادة إبشاي الذي سيكون إناءً مختاراً وله إسم شائع وسيتحمل عذابات كثيرة لأجل اسم المسيح وينال إكليل الشهادة وإكليل الحياة الدائمة ويعيد مع صفوف الشهداء في أورشليم السمائية.
وقد ولد القديس الأنبا إبشاي في بلدة بوها في الأول من شهر برمودة، وفي يوم ولادته فرحوا فرحاً عظيماً وصنعوا وليمة كبيرة دعوا فيها كل أهل بلدتهم من أغنياء وفقراء. وإستمروا في فرحهم سبعة أيام يقدمون عطاياهم وصدقاتهم للمساكين والفقراء.
ولما أتي بالطفل أبواه لعماده في الكنيسة، كان في البيعة في تلك الأيام قسيس طاعن في السن كامل في الأعمال الحسنة بتول منذ صغره طاهر نقي. وبسبب شيخوخته وطول عمره كلت عيناه ووهن جسمه. وفي ذلك الأوان مرض الكاهن مرض الموت الذي يمضي به إلي الرب، فلما أتي والدا القديس الأنبا بشاي إلي البيعة، قدماه إلي القس الشيخ المبارك ميخائيل وسألاه أن يصلي علي الطفل ويباركه. فأخذ الأب الكاهن يد الطفل ووضعها علي عينيه ووجهه وصدره، فشفي من مرضه للحال وعاودته صحته وإسترد بصره. وعندئذ قام علي قدميه وشكر الله وباشر تعميد الطفل بنفسه بكل فرح ونشاط. وبعدها عاد فبارك الطفل وأسرته وأقربائه القادمين معه وطوبهم بإنتسابهم إلي هذا الطفل ، وتنبأ عنه قائلاً أنه وصديقه بطرس سوف ينالا اكليل الشهادة وتبني لهما وبإسميهما بيعة عظيمة في قريتهما بوها في مكان منزل الأسرة حيث يبقي جسداهما ويصنع الرب بشفاعتهما عجائب وقوات كثيرة ومستمرة. ولما انتهي من بركته قبل الطفل وسلمه لوالديه ثم فاضت روحه للحال. وكان أن أبوي الأنبا بشاي كفنا جسده الطاهر ودفناه بكل تكريم في موضع مشهور في البيعة ورجعا إلي منزلهما بسلام.
أما بطرس، فقد ولدته أمه مريم قبل ولادة بشاي بقليل، وكان معروفاً عن أبيه سدراك أنه كان محباً لله ولا يتواني عن تقديم صدقات كثيرة. وقد حدث بعد مرور ثلاث سنوات من مولد بطرس أن تنحيت أمه مريم فأخذته خاريس أم بشاي وإحتضنته وسلمته لمربيات تقيات لأنها لم تكن قد رزقت بعد بولدها الأنبا بشاي. وقد اجتهدت في تربية بطرس وقيل أنه نشأ من صغره يعرف الرب كصموئيل النبي.
ولما ولدت خاريس طفلها المختار بشاي فرحت بالطفلين وضمتهما معا كإبنيها، وإعتنت بهما من كل وجه. وتربي الطفلان معا كشقيقين لا يفارق أحدهما الآخر. وكانا ينميان معاً في معرفة الله وفي كل نعمة وحكمة.
ولما بلغ بشاي من العمر سبع سنوات، أرسله أبوه ومعه بطرس إلي مدينة أخميم حيث تتلمذا علي كاهن قديس شيخ هو القس يوسف. وقد استفاد بشاي وبطرس كثيراً من هذا المعلم الفاضل الذي كان كثيراً ما يزورهما في بيتهما في أخميم ليعلمهما. وكان كلاهما كالإبن المطيع الخاضع. وقد علمهما القس يوسف قراءة الكتب المقدسة وتفسير معانيها. كما علمهما أيضاً كتب البيعة والحكمة والأدب وكان الصبيان يلازمانه كل يوم في حضور الكنيسة باكراً وعشية.
ولما رأي معلمهما كثرة محبتهما لله وحرارتهما في العبادة والسجود والسهر والصوم كل يوم إلي العشية، أوقفهما أمام المذبح المقدس رغم صغر سنهما ورسمهما الأسقف شماسين علي الكنيسة ويحكي الأنبا ميسياس أسقف فاو وكاتب سيرتهما أنه للوقت لما إبتدأ الأسقف سيامتهما وتكريسهما والصلاة عليهما، فاضت عليهما موهبة الروح القدس، وإمتلأ الإثنان من نعمة الله شهادة من السماء علي أنهما يستحقان هذه الرتبة المقدسة. وبعدها زادا نموا في كل معرفة روحية وكنيسية، وقد قيل عن بشاي وبطرس أنهما كانا يقضيان يومهما في الصلاة من الصباح الباكر حتي المساء. كما كانا يصومان انقطاعا ولا يتناولا طعامهما إلا في العشية.
وقد إعتاد بشاي وإبن خالته بطرس أن يصحبا صلواتهما اليومية بميطانيات عديدة في النهار والليل، وقيل أنهما كانا يصليان كل يوم طالبين مراحم الرب مائة وخمسين مرة في النهار ومائة وخمسين مرة في الليل.
جهاد القديسين في شبابهما:
لما بلغ الأنبا بشاي سن السابعة والعشرين، كان هو وصديقه الأنبابطرس قد نميا جداً في الفضيلة. وقد إستمر نموهما مداومين على خدمة المذبح المقدس مواظبين علي حضور الكنيسة كل يوم بغير فتور أو تكاسل بل بنشاط وهمة. وقد ألفَ بشاي وبطرس الاشتراك معاً في العبادة المقدسة وممارسة النسك والصوم.
وقد رُوي عنهما أنه كان لهما في البيت قلاية خاصة للعبادة والاختلاء، وكانا ينامان معاً فيها، وقيل أنهما لم يشتهيا قط مجمع الصبيان، ولم تمل أعينهما بشهوة نحو وجه إمراة أو حسنها. ولم ينظرهما أحد يمشيان في السوق، ولم تخرج من فم أي منهما كلمة بطالة، ولم يشتهيا لذة مأكل أو مشرب بل كانا يمتنعان عن الطعام المطهي والشهي، كما كان رحيمين يتصدقان بما عندهما علي الفقراء والمحتاجين. ولم تنقطع قرابينهما وذبائحهما أو تبطل يوماً واحداً من بيت الله.
ولما رأت أسرتهما فرحهما بالرب ونسكهما وعدم إهتمامهما بهذا العالم الزائل، لم يفاتحانهما في موضوع الزواج عالمين أنهما نذرا نفسيهما للبتولية المقدسة.
وفي إحدي المرات، بينما كان القديسان يصليان معاً صلاة نصف الليل كعادتهما، أشرق عليهما رئيس الملائكة جبرائيل وألقي عليهما السلام، وتكلم معهما وأنبأهما بما سوف يلقيانه وغيرهما من عذاب وإضطهاد وإستشهاد علي إسم السيد المسيح وما سيلي ذلك من تملك الملك قسطنطين البار الذي يأمر بهدم برابي الأوثان وفتح الكنائس وإعلان المسيحية ديانة رسمية، ولم يتركهما الملاك إلا بعد أن شددهما وبارك عليهما. ولما صار النهار أخبرا ثيؤبسطس وخاريس والدي الأنبا بشاي بما رأياه. وتعجب الجميع متسائلين ما عساه أن يكون الاضطهاد الذي أنبأ به الملاك. وبكر القديسان كعادتهما إلي الكنيسة وصليا ثم رجعا عائدين إلي موضعهما في البيت.
ولما بلغ القديس الأنبا بشاي سن الثلاثين مات أبواه في يوم واحد معاً. وحزن عليهما جداً حزن الفراق المشوب بتعزية كلمة الرب الغنية، غير أن بشاي زاد في نسكه وتقشفه بعد نياحتهما ولم يرقد علي فراش ناعم. وكان وابن خالته كثيري السهر طول الليل مجاهدين في الصلاة والعبادة. ثم توحد الاثنان في قلاية بدير قريب من بلدتهما.
مشوار المتاعب:
كتب بولس إلي أهل فيلبي قائلاً (لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله) في 1 :29، وهكذا شق الأنبا بشاي طريقه في مشوار تعب مستهيناً بالآلام والأتعاب غير مخوف بشئ من المقاومين، ففي تلك الأيام تحققت نبوءة للقس يوحنا (جد الشهيدين لأمهما) مفادها أن شاباً طائشاً ردئ السيرة طويل القامة ساحراً أسمه (أغربيطاتيم) من مجندي جيش الإمبراطور نوماريوس مضي مع الجنود إلي مدينة المملكة حيث أقام أياما قلائل في إسطبل الخيل لأنه كان في مهنته الأصلية راعياً للماعز في تخوم مدينة أخميم في بلدة يقال لها (إبصاي) فنظرت أبنة الملك هذا الشاب الفارع وأعجبت به وأحبته وتزوجته زواجا نجساً ولأن الملك أبا الفتاة كان علي أيامها في حرب صعبة غير متكافئة مع الفرس وخاف وقتها وهرب وإنقطعت أخباره، فقد خلعت الأميرة علي عشيقها أغربيطاتيم حلة الملك وألبستها له وأجلسته علي كرسي أبيها معلنة علي الملأ أنه الامبرالطور وأن مملكة الروم ألت إليه وصار إسمه (دقلديانوس) ، وتولي الملك في عام 284م وعندئذ دخله الشيطان وأظلمت بصيرته وترك عنه عبادة الله بجهل وأسرف في النجاسة والزنا وعبادة الأوثان. وأغلق الكنائس وبني البرابي، وعمل سبعين صنماً (=نصفها من الذكور ونصفها من الإناث)، وسماها آلهة وأمر الناس أن يسجدوا لها وكلف واليه (إريانوس) الذي تولي إدارة الإقليم من إنصنا (=ملوي) إلي أسوان أن ينفذ أمره أو ُيعاقب بالقتل كل من خالفه ، وقد استشهد في ذلك جمع كبير من أخميم وإبصاي وفاو ودندرة وأرمنت وإسنا وقفط وقوص.
ولما أعلن (أخيلوس) العامل علي مصر ( من قبل الأمبراطور) إستقلاله بمصر ونادي بنفسه ملكاً عليها، اضطر دقلديانوس أن يحضر بنفسه إلي مصر ويقتص من أخيلوس. ولظنه أن المسيحيين في مصر ناصروا أخيلوس هدم كنائسهم وقتل منهم الكثيرين في مذبحة رهيبة بلغت قرابة المليون شهيد . وروي بعض الآباء أن دقلديانوس أقسم بأنه لن يكف عن قتل المسيحيين إلا إذا بلغت الدماء ركبة حصانه وبالفعل لما تعثر حصانه وسقطت به الفرس علي الأرض تلوثت ركبتاها بالدم فأوفي بقسمه وأنهي الاضطهاد وإمتنع عن قتل مزيد من المسيحيين.
وفي السنة الثالثة من ولاية إريانوس الذي تولي إدارة الأقاليم من ملوي إلي أسوان حضر إريانوس الوالي إلي مدينة فاو لكي يراقب المسيحيين ويضطهدهم. ويومئذ تقدم للوالي بعض الأشرار ووشوا بالقديسين بشاي وبطرس بأنهما رفضا عبادة الأوثان داعيين لعبادة السيد المسيح. فأستدعاهما الوالي آمراً بالقبض عليهما ولما حضرا أمامه واجهاه بشجاعة عجيبة وأعلنا إيمانهما وتمسكهما بالسيد المسيح وإستعدادهما لتحمل العذاب والموت لأجله. وإذ لم يكن الوالي مستعداً لمحاكمتهما للتو بسبب مشغولياته، فقد أودعهما السجن لحين إنتهاء مهمة كان سيقوم بها. وقيل أن الوالي كان مضطراً للسفر للصعيد جنوباً في رحلة إلي مدينة قفط حيث علم بسقوط بربا (= معبد للوثن) وإنهيار الهيكل حتي قتل جميع الكهنة مجتمعين وتحول المكان إلي جب (= بئر أو حفرة) غائص عميق كريه إمتلأ بماء نتن شديد السخونة ولونه كلون الزفت.
أما السجن المظلم الذي وضع فيه القديسان فقد تعطر بوجودهما فيه. وهكذا تحول مكان الحبس إلي مكان عبادة حيث كان الشهيدان، مثل بولس وسيلا، يصليان ويسبحان الله والمسجونون يسمعونهما (راجع أع 16 : 25)، وكان الشكر يرتفع منهما إلي الرب يسوع الذي أهلهما لشركة آلامه. وفي السجن قصدهما الكثيرون من أهل بلدهما كل يوم. كما تردد عليهما مرضي كثيرون طالبين صلواتهما. وحدثت منهما كثير من معجزات الشفاء.
وفي السجن، نالتهما تعييرات وإهانات وعذابات كثيرة وكان الملاك جبرائيل ينزل إليهما في كل مرة ويلمسهما ويشفي جراحاتهما. وقد ظهر جبرائيل مرة للقديسين وهما في السجن معا بعد حبسهما بثلاثة أشهر. ووقتها عزاهما وأنبأ القديس بشاي بأن الملك سيأمر بقطع رأسه بعد أن يمضي إلي مدينة الإسكندرية ويحتمل عذابا عظيما ويصنع قوات وعجائب كثيرة، ثم يأتون بجسده لبلدته (بوها) ويبني منزله بيعة عظيمة علي إسمه وإسم صديقه بطرس ويوضع جسداهما فيها. أما بطرس فقد أنبأه الملاك بأن الوالي بمجرد عودته من مهمته سيأخذ رأسه ويصلبه علي الكوم الذي في شرقي البلدة وسيمضي بعض الأتقياء خفية ويأخذون جسده ليدفنوه في البيت لحين مجئ جسد بشاي وبناء الكنيسة بإسميهما معاً.
شهادة الأنبا بطرس:
بعد خمسة أشهر، عاد الوالي إلي فاو مرة أخرى بعد إنتهاء رحلته إلي قفط. وهناك والقديسان في محبسهما، إستدعاهما الوالي إليه فوجد منهما إصرارا علي التمسك بإيمانهما وإذ عجز عن إقناعهما بعبادة الأصنام وثنيهما عن إيمانهما بالمسيح، أمر بحملهما علي الهنبازين وشدهما جيداً وعصرهما. وبينما هما كذلك، رفعا قلبيهما إلي الله مسبحين بشكر، وترنما بالمزمور القائل، ” لتتقدمنا مراحمك سريعاً لأننا قد تذللنا جداً، أعنا يا إله خلاصنا من أجل اسمك” (مز 79:9, 8 ) وفيما هما يرتلان نزل إليهما الملاك جبرائيل وكسر الهنبازين ولمس جسديهما وشفاهما.
ولما رأي الوالي ثباتهما علي الإيمان وتجمع الشعب حولهما، فرق بين الصديقين ووضع كلا منهما في محرس مستقل وقرر أن يحاكم كلا منهما علي إنفراد،علي أن يبدأ أولا بمحاكمة الأنبا بطرس. وقد فشل الوالي في التفريق بينهما إذ حدث أن ملاك الرب إختطف الأنبا بشاي من حبسه وأتي به سائحاً إلي الأنبا بطرس حيث شدد كل منهما الآخر وتعزيا وصليا معاً صلاتهما المشتركة الأخيرة قبل أن تكمل شهادتهما وتصعد روحاهما الطاهرتان إلي مواضع النياح ولما رأي الوالي شدة تمسك بطرس بإيمانه طلب أن يخرج إلي خارج البلدة ثم أمر بقطع رأسه بالسيف فنال إكليل الشهادة وقد علقوه علي خشبة علي كوم عال في البلدة.
وكانت شهادته في اليوم السادس والعشرين من شهر طوبة وسنه حوالي التاسعة والثلاثون أو الأربعون عاماً علي الأكثر. وقد سعي الأنبا بشاي ودفع ذهبا حتي أمكنه الحصول علي جسد صديقه الأنبا بطرس وأخذه بعض المؤمنين سراً حيث تم اخفاؤه في خباءة بدهليز منزل الأسرة في بلدة بوها .
شهادة الأنبا بشاي:
أما الأنبا بشاي فقد بقي في حبسه بعض الوقت بعد إستشهاد صديقه بطرس. وفي السجن واجه بكل شجاعة تهديدات الوالي وإهاناته وقد عاني من صنوف التعذيب الكثير وتحملها جميعا بشكر وصبر، وظهر له الملاك جبرائيل مرة أخري في سجنه وعزاه وأنبأه بموعد إستشهاده في الخامس من شهر بؤونة وبأن جسده الطاهر سوف يصل إلي يد تيموثاؤس نائب الملك في الإسكندرية، وهذا يسلمه إلي أغاثو رئيس البنائين الذي من بلده فيكفنه ويأخذه مع رفقته إلي بلدتهم بوها حيث يدفنوه مع جسد صديقه الأنبا بطرس ويبقي الجسد في منزل الأسرة لحين ينتهي الاضطهاد ويعاد بناء الكنائس فتبني في مكان دار القديس كنيسة علي اسمه وقد كان هذا هو الذي حدث.
وفي تلك الأيام وبينما كان اريانوس يتهيأ لمحاكمة بشاي وصلته رسالة تستدعيه أن يحضر إلي مصر شمالاً ومعه بعض المهندسين المهرة لبناء بربا عظيمة علي الشاطئ لأحد آلهتهم فغادر إريانوس فاو آخذا معه المهندسين وعلي رأسهم (أغاثو) الذي من بلدة الأنبا بشاي أما بشاي فأمر الوالي أن يوثقوه بقيود من حديد ويأخذوه معهم في مركب أخري إلي مقصدهم بغير أكل أو شرب. ورغم مرور عشرة أيام بدون أكل أو شرب لكنه بقي صحيحاً وكان يقول لمن حوله (لقد أطعمنى الله من خيراته و أعالنى في جوعي وعطشي و هوذا هو يعولني منذ صغري وحتي الآن فمن ياتري له إله صالح محب لي ولكل البشر مثل إلهي!! )
وقد وصل بشاي إلي الإسكندرية حيث إستجوبه واليها (كلوسيانوس) فسأله ما اسمك ؟ وما هو عملك . اما هو فأجابه بكل شجاعة قائلا ( انا تاجر جئت أبيع دمى لاشترى ملكوت السموات هذا الذى حرمت انت نفسك من خيراته) عندئذ عذبه عذابات قاسية وأمر بربطه وأخرج عروق يديه ورجليه وضربه بالسياط حتي تناثر لحمه وإضافة لهذا أمر بأن يسكبوا زيتا مغليا علي صدره وفي فمه وأذنيه وانفه وجعلوا مصابيح نار تتقد تحت جنبيه وأحضروا مراود حديد محماة بالنار جعلوها في عينيه حتي برزتا من وجهه. ورغم كل هذا كان القديس محتملاً وصابرا ونزل إليه الملاك جبرائيل وعزاه ولمسه وشفي جراحاته.
ولما فشلت جهود كلوسيانوس، أعدوه للسفر إلي أنطاكية ومعه أربعة من المعترفين ومعهم كتاب إلي الملك دقلديانوس مكتوب فيه (هؤلاء رفضوا إطاعة الأوامر الملكية. وقد مللنا من تعذيبهم. ولأجل هذا نرسلهم إليك) ورغم أنه كان يعرف مصيره لكنه ظل أمينا مع إلهه ثابتا في إيمانه، وأكثر من هذا أحسن إلي من أساء إليه. فقد حدث أن جاءه تيموثاؤس نائب الملك طالباً منه أن يبرئ إبنته التي كان عليها روح نجس. ومن كثرة الحزن عليها بكت أمها عليها الليل والنهار حتي فقدت بصرها من حسرتها عليها فكان أن جاءهم الأنبا بشاي في نصف الليل وصلي علي ماء ورش الفتاة وأمها فخرج الروح النجس من الفتاة واستعادت الأم نظرها.
وفي أنطاكية صلي لإبن الأمير مكسميانوس الذي سكنه شيطان منذ ثماني عشرة سنة وشفاه فآمن الأمير وكل أسرته وعبيده وتعمدوا باسم الثالوث الأقدس. ورمي مكسيميانوس قلادة الإمارة في وجه الملك معترفا بالإيمان المسيحي مما إضطر الملك أن يأمر بقطع رأسه ورؤوس من معه وقد بلغ عددهم ستة عشر فرداً.
وفي أنطاكية أيضاً توعده الإمبراطور دقلديانوس ثم عذبه مع رفقائه المعترفين الأربعة. وقد حفروا للأنبا بشاي حفرة طرحوه فيها ورفقائه ، وأشعلوا فيهم ناراً بكبريت مع زيت وارجون علي نحو ما حدث للفتية الثلاثة في بابل ورغم إرتفاع اللهيب عالياً فقد نزل إليهم الملاك جبرائيل وشوهد مع الشهداء الخمسة وكأنهم يتمشون وسط النار في نزهة وأطفأ النار عنهم. وكان هذا سببا في أيمان أحد الجنود الذين أعلن إيمانه فوراً فقطعوا رأسه ورؤوس الأربعة المرافقين للأنبا بشاي. ونال الجميع إكليل الشهادة.
أما بشاي فقد ربطوا حجراً كبيراً في عنقه، وربطوا حبلاً برجليه في أحد الأعمدة ونكسوا رأس العمود حتي صار نصف الجسد في الماء والنصف الآخر معلقاً إلي فوق. وكان ذلك من الساعة الثالثة حتي السادسة من النهار. فجاء ملاك الرب وأمسك برأس القديس وعدلها علي جسده وحل الحجر من علي عنقه وأجلسه عليه وسط اليم!! وبعد قليل جاء الملك فذهل لما رأي ذلك وعندئذ أمر بقطع رأس القديس . وقبل أن يسلم القديس رأسه للسياف قام وصلي ورشم وجهه ثلاث مرات بعلامة الصليب المقدس. وكانت شهادته في مدينة إنطاكية في الساعة السادسة من نهار يوم الجمعة الموافق الخامس من شهر بؤونة وقد بلغ عمره وقتئذ حوالي ست وثلاثين سنة وقد تركوا جسد القديس ورأسه في قارب صغير بغير قائد وبتدبير الله وعنايته أبحر القارب حتي وصل إلي الإسكندرية. وبمجرد وصوله للإسكندرية أظهر القديس ذاته متجلياً في رؤيا لبعض المؤمنين الذين كان أحدهم (أغاثو) المهندس ورئيس البنائين الذي من بلدة القديس والذي كان قد جاء إلي الإسكندرية ليسأل تيموثاؤس نائب الملك عن أخبار الأنبا بشاي فلما ذهبوا إلي البحر وعرفوا جسد الأنبا بشاي، أخذه أغاثو وكفنه بأكفان من حرير ووضع عليه أطيابا ثمينة وجعل جسده في صندوق من الخشب ورافقه في المركب حتي أوصله إلي بلدته بوها وهناك خرج أهل القرية وحملوا الجسد الطاهر بإحترام وإكرام ودفنوه بجوار جسد حبيبه وصديقه وشريكه في النسك الأنبا بطرس.
ولما تولي الملك البار (قسطنطين) الحكم وأطلق الحرية للجميع ونادي بالمسيحية ديانة إعترفت بها الدولة.
ظهر الأنبا بشاى والأنبا بطرس على هيئة رجلين مضيئين لرجل أرخن محباً لله اسمه مرقس وإمرأته إيرينى من بلدة بوها وكانا أبراراً سالكين فى وصايا الله وحقوقه وقالوا له يا مرقس الأرخن لماذا أنت كسلان فى أمرنا وأنت جارنا فلا تتركنا قم وهيئ لنا موضع نسكن فيه بجانبك لأنك أنت قريبنا.
فقال لهما مرقس ما هى أسمائكما؟
فأجابوه أنا إبشاى وهذا بطرس وأجسادنا نحن الإثنين مخفيين فى بيتنا بجانب بيتك وقد نسيتنا ونحن أهلك وأقاربك والآن إهتم وإبنى لنا بيتنا كنيسة وإذا وصلت إذا موضع السلم فإهدمه وأحفر فى الأرض فتجد مالاً قد خلفوه آبائنا فخذه وأنفقه على بناء الكنيسة، فقام مرقس باكراً وهو متعجب لأجل الرؤيا التى رآها وذهب إلى الأسقف وأعلمه بها فباركه وقام أغاثو رئيس البنايين وأصدقاؤه ببناء الكنيسة ثم أرسلوا إلى الأسقف القديس الأنبا برسطاطوس أسقف أخميم وكان عنده الأنبا تاوضروس أسقف أسفحت والأنبا ميساس أسقف قاو الذين حضروا لتكريس الكنيسة يوم السبت في السادس والعشرين من شهر كيهك ووضعوا فيها جسدي القديسين بكرامة عظيمة.
ومازالت رفات القديسين محفوظة في الكنيسة التي تحمل إسمهما للآن بمدينة صدفا بركة شفاعتهما تكون معنا آمين.
أسماء وألقاب القديسين: إبشاي هو النطق الأصلي والاسم الأصلي لقديس الكنيسة الأول. وهي كلمة قبطية بمعني (عيد) وبطرس هو إسم قديس الكنيسة الثاني. وهو كلمة يونانية معناها (صخرة) فالقديس الشهيد الأنبا بشاي لقب بألقاب مختلفة عرف بها، ومن هذه الألقاب: (1) حبيب الله (2) الإناء المختار من الله (3) القربان المختار (4) وعاء الطيب النقي (5) القديس الشجاع (6) حامل الإكليل المقدس (7) الزرع الطاهر الأصل ( المصباح المنير (9) الكوكب العظيم الشهيد القديس الأنبا بطرس أيضاً كانت له ألقابه المميزة التي منها (1) القديس الشجاع (2) صفى الله (3) المصباح المنير (4) وعاء الطيب النقي (5)القربان العظيم (6) صاحب الإكليل المقدس غير المضمحل
عدل سابقا من قبل magdy-f في الجمعة 12 يونيو 2015, 1:52 pm عدل 1 مرات